حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضى الله عنهم
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ و على آله و صحبه وَ سَلَّمَ أنه قَالَ :
( يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ
يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ
تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ )
**********************
و صلِّ الله علي سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم
***************
قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
و قد جاء فى : ( تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي )
قَوْلُهُ : ( يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ )
أَيْ فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ
قَوْلُهُ : ( فِي صُوَرِ الرِّجَالِ )
أَيْ مِنْ جِهَةِ وُجُوهِهِمْ . أَوْ مِنْ حَيْثِيَّةِ هَيْئَتِهِمْ مِنْ اِنْتِصَابِ الْقَامَةِ
قَوْلُهُ : ( يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ )
أي يَأْتِيهِمْ
قَوْلُهُ : ( مِنْ كُلِّ مَكَانٍ )
أَيْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ .
وَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي غَايَةٍ مِنْ الْمَذَلَّةِ وَ النَّقِيصَةِ يَطَأهُمْ أَهْلُ الْحَشْرِ بِأَرْجُلِهِمْ
مِنْ هَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ . وَ فِي النِّهَايَةِ الذَّرُّ النَّمْلُ الْأَحْمَرُ الصَّغِيرُ و وَاحِدُهَا ذَرَّةٌ
قَوْلُهُ : ( يُسَاقُونَ )
بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ يُسْحَبُونَ وَ يُجَرُّونَ
قَوْلُهُ : ( إِلَى سِجْنٍ )
أَيْ مَكَانِ حَبْسٍ مُظْلِمٍ مَضِيقٍ مُنْقَطِعٍ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ
قَوْلُهُ : ( يُسَمَّى )
أَيْ ذَلِكَ السِّجْنُ
قَوْلُهُ : ( بَوْلَسَ )
قَالَ فِي الْمَجْمَعِ : هُوَ بِفَتْحِ بَاءٍ وَ سُكُونِ وَاوٍ وَ فَتْحِ لَامٍ .
وَ قَالَ فِي الْقَامُوسِ : بُولَسُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَ فَتْحِ اللَّامِ سِجْنُ جَهَنَّمَ
وَ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : هُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَ سُكُونِ الْوَاوِ وَ فَتْحِ اللَّامِ اِنْتَهَى
قَوْلُهُ : ( تَعْلُوهُمْ )
أَيْ تُحِيطُ بِهِمْ وَ تَغْشَاهُمْ كَالْمَاءِ يَعْلُو الْغَرِيقَ
قَوْلُهُ : ( نَارُ الْأَنْيَارِ )
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : لَمْ أَجِدْهُ مَشْرُوحًا وَ لَكِنْ هَكَذَا يُرْوَى ,
فَإِنْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ نَارُ النِّيرَانِ ,
فَجَمَعَ
النَّارَ عَلَى أَنْيَارٍ وَ أَصْلُهَا أَنْوَارٍ لِأَنَّهَا مِنْ
الْوَاوِ كَمَا جَاءَ فِي رِيحٍ وَ عِيدٍ أَرْيَاحٌ وَ أَعْيَادٌ
وَ
هُمَا مِنْ الْوَاوِ اِنْتَهَى . قِيلَ : إِنَّمَا جُمِعَ نَارٌ عَلَى
أَنْيَارٍ وَ هُوَ وَاوِيٌّ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ بِجَمْعِ النُّورِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَ إِضَافَةُ النَّارِ إِلَيْهَا لِلْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ هَذِهِ النَّارَ لِفَرْطِ إِحْرَاقِهَا
وَ شِدَّةِ حَرِّهَا تَفْعَلُ بِسَائِرِ النِّيرَانِ مَا تَفْعَلُ النَّارُ بِغَيْرِهَا اِنْتَهَى .
قَالَ الْقَارِي : أَوْ لِأَنَّهَا أَصْلُ نِيرَانِ الْعَالَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى }
وَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ :
( نَارُكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ )
عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ اِنْتَهَى
قَوْلُهُ : ( وَ يُسْقَوْنَ )
بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ
قَوْلُهُ : ( مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ )
بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَ هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْهُمْ مِنْ الصَّدِيدِ وَ الْقُبْحِ وَ الدَّمِ
قَوْلُهُ : ( طِينَةِ الْخَبَالِ )
بِالْجَرِّ بَدَلٌ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ , وَ الْخَبَالُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ
وَ هُوَ فِي الْأَصْلِ الْفَسَادُ وَ يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ وَ الْأَبْدَانِ وَ الْعُقُولِ .
قَوْلُهُ : ( هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ )
وَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ كَمَا فِي التَّرْغِيبِ وَ أَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ قَالَ :
( يُجَاءُ بِالْجَبَّارِينَ وَ الْمُتَكَبِّرِينَ رِجَالًا فِي صُوَرِ الذَّرِّ يَطَؤُهُمْ النَّاسُ
مِنْ هَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ يُذْهِبُ بِهِمْ إِلَى نَارِ الْأَنْيَارِ )
قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ مَا نَارُ الْأَنْيَارِ
قَالَ : ( عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ )
ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْبُدُورِ السَّافِرَةِ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ .
تَنْبِيهٌ : حَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ :
( يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ ) عَلَى الْمَجَازِ .
قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ : يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ .
أَيْ أَذِلَّاءَ مُهَانِينَ يَطَؤُهُمْ النَّاسُ بِأَرْجُلِهِمْ وَ إِنَّمَا مَنَعَنَا عَلَى الْقَوْلِ بِظَاهِرِهِ
مَا أَخْبَرَنَا بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ أَنَّ الْأَجْسَادَ تُعَادُ
عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ حَتَّى إِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ غُرْلًا يُعَادُ مِنْهُمْ
مَا
اِنْفَصَلَ عَنْهُمْ مِنْ الْقُلْفَةِ , وَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى
أَشَارَ بِقَوْلِهِ : ( يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) .
قَالَ الْأَشْرَفُ : إِنَّمَا قَالَ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ بَعْدَ قَوْلِهِ أَمْثَالَ الذَّرِّ قَطْعًا مِنْهُ :
حَمَلَ قَوْلَهُ أَمْثَالَ الذَّرِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَ دَفْعًا لِوَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ
لَا يُحْشَرُ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ وَ تَحْقِيقًا لِإِعَادَةِ الْأَجْسَادِ الْمَعْدُومَةِ عَلَى مَا كَانَتْ
عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ . وَ قَالَ الْمُظَهَّرُ : يَعْنِي صُوَرُهُمْ صُوَرُ الْإِنْسَانِ
وَ جُثَّتُهُمْ كَجُثَّةِ الذَّرِّ فِي الصِّغَرِ . قَالَ الطِّيبِيُّ :
لَفْظُ الْحَدِيثِ يُسَاعِدُ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمْثَالَ الذَّرِّ تَشْبِيهٌ لَهُمْ بِالذَّرِّ
وَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ الشَّبَهِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ الصِّغَرَ فِي الْجُثَّةِ
وَ أَنْ يَكُونَ الْحَقَارَةَ وَالصِّغَارَ فَقَوْلُهُ فِي صُوَرِ
الرِّجَالِ بَيَانٌ لِلْوَجْهِ وَ دَفْعُ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ
خِلَافَهُ ,
وَ أَمَّا قَوْلُهُ ( إِنَّ الْأَجْسَادَ تُعَادُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ )
فَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لَا تُعَادَ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ فِي مِثْلِ الذَّرِّ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَيْهِ ,
وَ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ وَ عَلَى هَذِهِ الْحَقَارَةِ مَلْزُومُ هَذَا التَّرْكِيبِ
فَلَا يُنَافِي إِرَادَةَ الْجُثَّةِ مَعَ الْحَقَارَةِ .
قُلْتُ : الظَّاهِرُ هُوَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَ لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ
وَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَادَ تُعَادُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ
حَتَّى
إِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ غُرْلًا . قَالَ الْقَارِي : التَّحْقِيقُ أَنَّ
اللَّهَ يُعِيدُهُمْ عِنْدَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ
عَلَى أَكْمَلِ صُوَرِهِمْ وَ جَمْعِ أَجْزَائِهِمْ الْمَعْدُومَةِ تَحْقِيقًا لِوَصْفِ الْإِعَادَةِ عَلَى
وَجْهِ الْكَمَالِ ثُمَّ يَجْعَلُهُمْ فِي مَوْقِفِ الْجَزَاءِ عَلَى الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ إِهَانَةً وَ تَذْلِيلًا لَهُمْ ,
جَزَاءً وِفَاقًا , أَوْ يَتَصَاغَرُونَ مِنْ الْهَيْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ إِلَى مَوْضِعِ الْحِسَابِ
وَ ظُهُورِ أَثَرِ الْعُقُوبَةِ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي لَوْ وُضِعَتْ عَلَى الْجِبَالِ لَصَارَتْ هَبَاءً مَنْثُورًا اِنْتَهَى .
اِنْتَهَى بعون الله و توفيقه .
( نسأل الله أن يرزقنا إيمانا صادقاً و يقينا لاشكّ فيه )
( اللهم لا تجعلنا ممن تقوم الساعة عليهم و ألطف بنا يا الله )
( و الله الموفق )